أطلق عددٌ من المهتمين بالرحلات والاستكشاف مبادرة مجتمعية أُطلقت تحت عنوان “الوجهة شمال”، تهدف هذه الرحلة إلى تسليط الضوء على المقومات السياحية المتنوعة التي تزخر بها المملكة العربية السعودية، مع إبراز ما تملك من موارد طبيعية، تراثية، وثقافية. وكانت بداية المسار من العاصمة الرياض، مرّ بمنطقة حائل، وصولًا إلى محافظة العُلا، قبل أن تُختتم الرحلة في منطقة تبوك — مسار يجسد التنوع الجغرافي والتضاريسي لشمال المملكة، ويبرز التكوينات الصخرية والمناظر الطبيعية التي تجعل من هذه المناطق وجهة سياحية استثنائية.
وقد أكد المشرف العام على المبادرة، الفنان والمهتم بالرحلات السياحية خالد عبدالرحمن، أن العُلا كانت من أبرز محطات هذه الرحلة نظراً لما تتميز به من طبيعة فريدة وتنوع في التضاريس، ما يجعلها وجهة لافتة على خارطة السياحة الثقافية والطبيعية. تهدف المبادرة إلى ترسيخ مفهوم السياحة المسؤولة عبر تعزيز الممارسات التي تسهم في الحفاظ على البيئة وصون المواقع التراثية، مع تعزيز الوعي بأهمية حماية المقومات السياحية، وصون الموارد الطبيعية للأجيال القادمة. كذلك، تأتي هذه المبادرة ضمن سلسلة رحلات استكشافية تمتد إلى مناطق الجنوب والشرق والوسط والغرب، في إطار رؤية وطنية شاملة لتشجيع السياحة الداخلية ونشر المقومات السياحية، وإبراز تنوع البيئات الطبيعية والموروثات الثقافية في المملكة.
السياحة الداخلية: دفعة مجتمعية نحو تعزيز الهوية الوطنية
تأتي مبادرة «الوجهة شمال» في لحظة حيوية تشهد فيها السعودية تحوّلات استراتيجية تهدف إلى تنويع مصادر الدخل، وتعزيز السياحة الداخلية ضمن أولويات رؤية المملكة 2030. في هذا السياق، لا تُكتفى المبادرة بجذب السائح إلى معالم جديدة فحسب، بل تسعى أيضاً إلى تأصيل مفهوم «السياحة الواعية» — تلك التي تراعي البيئة، تحترم التراث، وتُشجّع على استكشاف الهوية المحلية بطريقة مستدامة ومشارِكة من أبناء المجتمع أنفسهم. وفق ما نقلته وسائل إعلام سعودية مؤخراً، فإن هذه المبادرة تسلّط الضوء على التطور الملحوظ في البنية التحتية والخدمات السياحية في المناطق المستهدفة، من خلال جولات ميدانية بالسيارات، وتوثيق بصري للمواقع المميزة، ثم إيصالها للعالم عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل.
من الناحية الاقتصادية، فإن مثل هذه المبادرات المجتمعية يمكن أن تلعب دوراً تكميلياً لمشاريع الاستثمار الضخمة، عبر تفعيل سياحة国内ة (domestic tourism) وتعزيز إنفاق محلي على الضيافة، التنقّل، والخدمات ذات الصلة. كما أنها تدعم التنويع الاقتصادي وتخفيف الاعتماد على المستهلكين الأجانب أو السياحة الفاخرة وحدها.
العُلا: جوهرة تاريخية تتجدد في كنف التطوير السياحي
من أهم المحطات التي زارها المشاركون في «الوجهة شمال» كانت العُلا — تلك المنطقة التي تمزج بين آثار حضارات قديمة وطبيعة ساحرة، لتكون اليوم نموذجاً لتطوير ثقافي وسياحي فريد. تشتهر العُلا بكونها موطناً لآثار حضارات عريقة، وعلى رأسها المدينة النبطية القديمة حضارة الحِجْر (مدائن صالح) / Hegra، المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو.
إلى جانب الأهمية التاريخية، تشهد العُلا تحوّلاً تنموياً واسعاً: فمشروع التطوير الخاص بها يهدف إلى تحويل المنطقة إلى «وجهة متكاملة» تجمع بين التاريخ، الطبيعة، الضيافة الفاخرة، والثقافة، عبر إنشاء فنادق فخمة، مرافق سياحية، وحدائق طبيعية إلى جانب الحفاظ على المناطق الأثرية والطبيعية.
هذا التوازن بين الحماية والاستثمار يعكس رغبة واضحة في جعل العُلا نموذجاً ناجحاً للسياحة المستدامة — حيث يُنمى التراث والبيئة في آن معاً دون تسليع مفرط يهدد هوية المكان.
السياحة المستدامة والمسؤولية البيئية: ركيزة أساسية
ما يميّز «الوجهة شمال» ليس مجرد الترفيه أو الاستكشاف، بل التركيز على السياحة المستدامة — مفهوم صار محورياً في السياسات السياحية العالمية في العقود الأخيرة. من هذا المنطلق، تشير دراسات حديثة إلى أن التعلق المجتمعي بالمكان يساعد في ترسيخ سلوكيات «استهلاك أخضر» بين الزوار. مثالاً على ذلك دراسة أجرتها جامعة أو باحثون في 2024 حول ارتباط انتماء المجتمع المحلي في العُلا مع الميل نحو ممارسات سياحية بيئية (مثل تقليل النفايات، احترام الطبيعة، استخدام موارد محلية) عند السياح.
هذا يعكس أن مبادرات محلية، مدفوعة من المواطنين أنفسهم، يمكن أن تُكمل جهود الدولة في تحقيق السياحة المستدامة، وأن تكون قوة ناعمة تبني جسوراً بين الإنسان والمكان، بين الماضي والحاضر.
السياحة السعودية في إطار رؤية اقتصادية وطموح عالمي
تحويل التراث الطبيعي والتاريخي إلى مورد اقتصادي مستدام كان دائماً أحد توجهات المملكة في السنوات الأخيرة. مشروع العُلا وحده يُمثّل استثماراً بقيمة تُقدَّر بمليارات الدولارات، ويحسب ضمن ما يُعرف بالمشاريع العملاقة (giga-projects) التي تستهدف تنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط.
من منظور أوسع، فإن مثل هذه المبادرات تعكس تحوّلاً ثقافياً — من كون السعودية دولة يحجّ إليها الزائر لأداء مناسك دينية، إلى دولة تُرحّب بالسائح الباحث عن التاريخ، الثقافة، الطبيعة، والتجربة الفريدة. هذا التنوّع السياحي يشكّل فرصة لتعزيز مكانة السعودية على الخريطة السياحية العالمية، وقد يساهم في جذب زوار من آسيا، أوروبا، وشتى أنحاء العالم، خاصة مع التحسينات في البنية التحتية والمواصلات، وظهور خيارات متنوعة للإقامة والخدمات.
مدى تأثير المبادرة على المجتمع المحلي وعلى التجربة السياحية
من الناحية الاجتماعية، تمثل «الوجهة شمال» نموذجاً للتطوع والمبادرة المجتمعية التي تبرز حب المواطنين لوطنهم ورغبتهم في تقديم صورة إيجابية عنه. هذا ليس فقط في توثيق الطبيعة والمواقع التاريخية، بل في ممارسة ضيافة أصيلة، تواصل إنساني، وتعريف الزائر بثقافة المكان وهويته.
من جهة الزوار، تُشكّل الرحلة فرصة لاكتشاف السعودية بطريقة تختلف عن النسق التقليدي للسياحة: بدلاً من المنتجعات الفاخرة فقط، هناك تجربة واقعية — طبيعة، ثقافة، تراث، وتنوع جغرافي — قد تكون أكثر أصالة وجاذبية لبعض الفئات من السياح، خاصة ممن يبحثون عن «السياحة الواعية» والتقارب مع الهوية المحلية.




