نشر فريق مشترك من الهيئة الملكية لمحافظة العُلا والمركز الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية بحثًا علميًّا محكّمًا في مجلة Arabian Archaeology and Epigraphy الدولية المتخصصة في آثار الجزيرة العربية والشرق الأوسط، يوثّق للمرة الأولى تفاصيل دقيقة لفترة زمنية تمتد من القرن الثالث حتى القرن السابع الميلادي في وادي القرى (العُلا حاليًا). يُعد هذا البحث علامة فارقة في فهم تاريخ الاستيطان في شمال غرب الجزيرة العربية، خصوصًا في المرحلة التي سبق الاعتقاد بأنها كانت فجوة معرفية بين نهاية الحقبة النبطية وبداية العصر الإسلامي. وقد اعتمد البحث على نتائج ثلاثة مواسم من التنقيب الأثري في موقع قريب من دادان الأثري، حيث عُثر على بناء كبير يعود بناؤه إلى أواخر القرن الثالث أو مطلع الرابع الميلادي واستُخدم حتى النصف الأول من القرن السابع الميلادي، ما يقدّم أول دليل أثري متكامل على وجود مجتمع مستقر في هذه المنطقة خلال تلك الحقبة التاريخية. وأظهرت النتائج معالم معمارية منظمة، شبكة غرف وساحات، نظام متقدم لإدارة المياه، دلائل على الزراعة وتخزين المحاصيل ونشاطات حرفية، ما يعكس نمط حياة مستقرًا ومتماسكًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا. ويُشير البحث إلى أن وادي القرى لم يشهد انقطاعًا في الاستيطان كما كان يُعتقد، بل استمر وجود مجتمع حضري منظم حتى قبيل ظهور الإسلام، وهو ما يُثري فهمنا لتاريخ العلا وأهميتها الحضارية. بحسب تصريحات د. عبد الرحمن السحيباني، نائب رئيس قطاع السياحة للثقافة في الهيئة الملكية لمحافظة العلا وأحد المشاركين الرئيسيين في إعداد البحث، فإن هذه النتائج تُبرز دور العلا كجزء من شبكة استيطانية مزدهرة قبل الإسلام، مما يعزّز مكانتها كمنطقة ذات امتداد حضاري مستمر عبر الزمن. الشرق الأوسط+1
العلا: واحة التاريخ والتواصل الحضاري
تقع العلا في شمال غرب المملكة العربية السعودية، وتمثل واحدة من أهم المناطق الأثرية في الجزيرة العربية، يعود تاريخها إلى آلاف السنين. وادي القرى، الذي يحتضن موقع دادان الأثري، كان مركزًا حضريًّا مهمًّا في العصور القديمة، حيث نشأت فيه ممالك حكمت أجزاء واسعة من شمال شبه الجزيرة العربية، وتوسّعت علاقاتها التجارية والثقافية مع حضارات الشرق الأدنى القديم وشبه الجزيرة العربية. experiencealula.com
تُعدّ العلا حلقة وصل استراتيجية عبر التاريخ، وبوابة للحضارات المتعاقبة، بفضل موقعها على طرق التجارة القديمة، بما فيها طريق البخور الذي ربط بين حضارات الجنوب بشبه الجزيرة العربية وشرق البحر الأبيض المتوسط. وقد كشفت الحفريات السابقة عن دلائل على استيطان يعود إلى آلاف السنين قبل الميلاد، بما في ذلك دلائل على الزراعة والحرف والنشاط التجاري الذي جعل من العلا مركز جذب للسكان والتبادلات الاقتصادية والثقافية. experiencealula.com
يُمثّل مشروع دادان الأثري أحد أبرز الجهود الدولية في المنطقة، حيث تشارك فيه فرق سعودية وفرنسية تعمل على مدار سنوات للكشف عن أسرار الحضارات القديمة في العلا من خلال تنقيبات متعددة التخصصات تشمل التحليل الأثري، البيولوجي، والجيولوجي. وقد أثمرت هذه الجهود عن سلسلة من الاكتشافات التي أثبتت أن المنطقة كانت نشطة ومزدهرة في فترات تاريخية عدة، ليس فقط خلال العصر النبطي، بل على امتداد قرون قبل ظهور الإسلام وحتى بداياته. AFALULA
سدّ الفجوة التاريخية: بين النبط وبزوغ العصر الجديد
لطالما شكلت الفترة بين نهاية الحقبة النبطية وبداية العصر الإسلامي لغزًا في الدراسات الأثرية والتاريخية لشمال غرب الجزيرة العربية. كان الاعتقاد السائد لدى الباحثين أن الاستيطان في مواقع مثل تيماء وخيبر والحِجر قد تراجع بشكل كبير، أو انقطع، بعد نهاية النفوذ النبطي، وأن المرحلة التالية لم تشهد حضارة مستقرة حتى بزوغ العصر الإسلامي المبكر. الشرق الأوسط
غير أن البحث الجديد المنشور في مجلة Arabian Archaeology and Epigraphy يقدّم أول دليل متكامل على استمرار الاستيطان الحضري في وادي القرى خلال هذه الحقبة الزمنية الممتدة من القرن الثالث إلى القرن السابع الميلادي، مع وجود بناء كبير استخدم بشكل مستمر لفترة تقارب أربعة قرون، ما يدل على وجود مجتمع منظم ومستقر، يعتمد على نظم معمارية متقدمة وإدارة فعّالة للمياه والموارد. الشرق الأوسط
تكشف نتائج التنقيب عن نظام متكامل للمياه يشمل آبارًا وأحواضًا وقنوات، وهو ما يعكس فهمًا متقدمًا لإدارة المياه في واحة العلا، حيث يعتبر الماء عاملًا حاسمًا في بقاء المجتمعات وتنميتها في البيئات الصحراوية. كما كشفت الأدلة على الزراعة وتخزين المحاصيل عن اقتصاد قائم على الإنتاج الغذائي وإسناد حرفة الصنع، مما يشير إلى مجتمع قادر على الإنتاج وتلبية احتياجاته بشكل مستدام. الشرق الأوسط
المنهج متعدد التخصصات وأدوات البحث
اعتمد البحث المنجز على نهج متعدد التخصصات، شمل تحليل الفخار، الأدوات الحجرية، بقايا النباتات، العظام الحيوانية، والجيولوجيا الأثرية، ما أتاح للباحثين رسم صورة مفصلة عن النظام الغذائي ونمط الحياة في العلا خلال تلك الحقبة. هذا النهج يعتُبر من أحدث الأساليب في علم الآثار الحديث، ويسهم في الجمع بين البيانات المادية والسياقات البيئية والثقافية لتقديم فهم أعمق للمجتمعات القديمة. الشرق الأوسط
أحد أبرز ما توفره هذه الأدوات هو التحليل البيئي والحياة اليومية، إذ يتيح استرجاع نظام الغذاء والزراعة، والتفاعل بين الإنسان وبيئته، وكيف استطاعت المجتمعات القديمة في وادي القرى تطوير استراتيجيات للبقاء في ظروف صحراوية قاسية. وقد أظهرت الأدلة أن المجتمع في العلا كان مزدهرًا ومعتمدًا على موارد محلية متنوعة بما في ذلك الزراعة وإدارة المياه ونشاطات حرفية، ما يشير إلى اقتصاد معرفي متكامل يسهم في رفاهية المجتمع. الشرق الأوسط
العلا اليوم: وجهة للتراث والسياحة الثقافية
أدى هذا الكشف الأثري المهم إلى تعزيز المكانة العلمية للعلا على الساحة الدولية، إذ أصبحت المنطقة تُنظر إليها باعتبارها مختبرًا مفتوحًا لفهم التاريخ المبكر لشبه الجزيرة العربية وتفاعلاتها مع العالم القديم. كما يدعم هذا النوع من الأبحاث أهداف التنمية السياحية والثقافية التي تتبناها السعودية، لاسيما في إطار رؤية المملكة ٢٠٣٠ التي تسعى إلى تعزيز السياحة الثقافية وتنمية الاقتصاد المعرفي وصون التراث الطبيعي والثقافي. الشرق الأوسط+1
من خلال الحفريات والمشاريع البحثية المستمرة، بما في ذلك المعارض الدائمة التي تعرض اكتشافات العلا الأثرية أمام الجمهور العالمي، تبدو العلا اليوم كما لم تكن من قبل: بوابة تاريخية حقيقية تروي قصة حضارات قديمة كان لها دور محوري في تشكيل معالم التواصل والتبادل في الجزيرة العربية وما حولها.




