يجسد متحف زايد الوطني مشروعاً وطنياً وثقافياً ذا بعد استراتيجي، إذ يُعد المتحف الوطني لدولة الإمارات، والمساحة المركزية في المنطقة الثقافية في السعديات (Saadiyat Cultural District).
منذ الإعلان عنه قبل أكثر من عقدين، ظل المشروع محل اهتمام وتوقّع. صُمِّم المتحف على أيدي أحد ألمع المعماريين المعاصرين، نورمان فوستر (من شركة Foster + Partners)، الفائز بجائزة بريتزكر للعمارة، التي تُعد من أرفع الجوائز في عالم التصميم المعماري.
يعكس التصميم المعماري للمتحف فلسفة تجمع بين الحداثة والانتماء إلى البيئة والتراث المحلي. يعلو البناء خمسة أبراج فولاذية خفيفة، مستلهمة شكل جناح الصقر في التحليق — وهو رمز خليجي إمارتي أصيل يعكس ارتباط الإمارات بثقافة الصقارة. هذه الأبراج لا تقتصر وظيفتها على الشكل الرمزي فحسب، بل تعمل كأبراج حرارية طبيعية (thermal chimneys)، تسحب الهواء البارد إلى داخل المتحف، في تصميم مستدام يستجيب للبيئة المناخية الصحراوية.
يمتد مدخل المتحف عبر حديقة المسار (Al Masar Garden)، وهي مساحة خارجية بطول نحو 600 متر، تُشبّك بين ساحل السعديات وبين أبواب المتحف، عبر مسار غني بالنباتات المحلية، وعرض لتطور البيئة منذ الصحاري إلى الواحات والمدن. كذلك تضم الحديقة نظام ري تقليدي (فلج)، ومنحوتات ومعارض متعددة الحواس، تؤسس لجوّ ترحيبي يربط الزائر بالبيئة والطبيعة الإماراتية منذ الخطوة الأولى.
ما الذي يقدّمه المتحف؟ رحلة عبر الزمن والإحساس
يعرض متحف زايد الوطني أكثر من 1,500 قطعة ضمن مجموعته الدائمة، منتقاة بعناية لتعكس محطات مفصلية في تاريخ الإمارات — من عصور ما قبل التاريخ مروراً بالعصور القديمة والوسطى، وصولاً إلى تأسيس الدولة ووحدتها وبناء حاضرها المعاصر.
تقسم صالات العرض إلى ستة أجنحة دائمة، كل منها يحمل عنواناً يعكس مرحلة أو جانباً من السردية التاريخية والثقافية:
- جناح «بدايتنا» (Our Beginning): يستعرض حياة الوالد المؤسس، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مسيرته، رؤيته لوحدة الإمارات، واللحظات المفصلية في تأسيس الدولة، من خلال وثائق أرشيفية، صور، تسجيلات صوتية، ممتلكات شخصية، ورسائل.
- جناح «من خلال طبيعتنا» (Through Our Nature): يستعرض التنوع الجغرافي والبيئي للإمارات — من الصحاري والجبال إلى الواحات والسواحل — وتبيان كيف شكّل ذلك الطبيعة والثقافة الإماراتية عبر العصور.
- جناح «إلى أسلافنا» (To Our Ancestors): يسلط الضوء على آثار استيطان بشري يمتد لعشرات آلاف السنين، ويعرض أدوات ومنحوتات من عصور ما قبل التاريخ تدعم وجود الإنسان في المنطقة منذ القدم.
- جناح «من خلال علاقاتنا» (Through Our Connections): يعرض مسيرة تفاعل الإمارات مع حضارات أخرى عبر التجارة، التبادل الثقافي، وصولاً إلى الإسلام، ويبرز كيف ساهمت هذه الروابط في تكوين الهوية الإماراتية.
- جناح «على سواحلنا» (By Our Coasts): يمضي بالزائر عبر تاريخ الملاحة، صيد اللؤلؤ، التجارة البحرية، دور الإمارات كمركز للروابط البحرية والثقافية على مدى قرون.
- جناح «إلى جذورنا» (To Our Roots): يعرض الحياة التقليدية، العادات، الأساليب الحياتية القديمة، المكتسبات الثقافية، والقيم المجتمعية التي شكّلت المجتمعات الإماراتية قبل اكتشاف النفط والتحولات الحديثة.
كما يقدم المتحف معارض مؤقتة، تجارب متعددة الحواس، تركيبات فنية معاصرة، بالإضافة إلى مرافق مثل محال للهدايا التذكارية، مطعم ومقاهي مستوحاة من التراث المحلي — ما يجعل الزيارة تجربة شاملة تجمع المعرفة، المشاهدة، والتفاعل.
السياق الأوسع: السعديات كمركز ثقافي دولي
إن افتتاح متحف زايد الوطني لا يأتي في فراغ. فهو جزء من استراتيجية شاملة لجعل منطقة السعديات في أبوظبي مركزاً ثقافياً عالمياً، يضم إلى جانبه مؤسسات أخرى رفيعة المستوى مثل Louvre أبوظبي، Natural History Museum Abu Dhabi (الذي افتتح قبل أيام) بالإضافة إلى مؤسسات قادمة مثل Guggenheim Abu Dhabi.
هذا التركيز الثقافي لا يعكس رغبة في جمع المقتنيات فحسب، بل يعكس رؤية اقتصادية — سياحية — تعليمية تنطوي على تحفيز السياحة الثقافية، وتعزيز مكانة أبوظبي والإمارات على خارطة السياحة العالمية، خصوصاً لأولئك الباحثين عن تجربة متكاملة بين الثقافة، الفن، التاريخ، والحداثة.
أبعاد اقتصادية وسياحية: متحف كقوة جذب عالمي
مع افتتاح متحف زايد الوطني، تزداد رغبة الإمارات — وبالأخص أبوظبي — في تعزيز جاذبيتها السياحية على مستوى عالمي، ليس فقط لدى عشّاق الفن والتاريخ، بل أيضاً العائلات، الباحثين، والمهتمين بالثقافة والتراث. يُمكن أن يُسهم المتحف في جذب آلاف الزوار سنوياً، ما يقدم دفعة للاقتصاد المحلي — من خلال دخول السياح، الإقامة، الضيافة، الخدمات، ومستوى إنفاق أعلى.
إضافة إلى ذلك، المتحف يوفر منصة تعليمية وبحثية: من خلال معارضه، أبحاثه المحتملة، برامجه التعليمية، يمكن أن يسهم في تنشئة أجيال من المؤرخين والباحثين، وتعزيز الهوية الوطنية، وفي الوقت ذاته تقديم صورة الإمارات كدولة تجمع بين الحداثة والهوية، ما يدعم مكانتها كوجهة حضارية وثقافية عالمية.
لماذا هذا الفتح يمثل محطة مهمة؟
أولاً: لأن المتحف يروي قصة الإمارات من جذورها الأولى حتى يومنا — ما يمنح الزائر فهماً شاملاً لتاريخ هذا الوطن مروراً بالتحوّلات الكبرى التي شهدها. بزيارته، يُتاح للزوار — مواطنين أو أجانب — أن يعيشوا تاريخ الإمارات عبر الزمن، ويتفاعلوا معه ليس كماضي معزول، بل كجزء حي من حاضر وهوية متجددة.
ثانياً: لأن تصميم المتحف نفسه رمز يعكس روح الإمارات — الطموح، الانفتاح على المستقبل، احترام التاريخ، والالتزام بالاستدامة — من خلال هندسته البيئية، استلهام التراث، ودمج الثقافة المحلية في المساحات المعاصرة.
ثالثاً: لأن افتتاحه ضمن سياق ثقافي أوسع في منطقة السعديات يعزز من استراتيجية الإمارات السياحية والثقافية، ما قد يسهم في جذب مزيد من السياح القادمين بحثاً عن تجربة ثقافية متكاملة، ويفتح آفاقاً للتبادل الثقافي والمعرفي على نطاق عالمي.




